لولوة المنصوري تكتب: الرياح.. فعل التخطي والإنماء والرسائل

11 hours ago 14

#مقالات رأي

لولوة المنصوري اليوم

ثمة معنى شموليٌّ كونيٌّ عام، أحببتُ الاستنارة به مما تنضح به الذاكرة المُحفّزة لمبدأ المدلول والرمزية والمنطلق الأول لسر الأهوية والريح ومدركات الرسائل في الطبيعة. فالريح تحملها الجهات الأربع المتصلة بالدّهر، وهي الروح والنَّفيُّ الحيوي للكون، وكان الارتباط الرمزي بها كامناً في كسر القيود والحبال والخيوط والتحليق بعيداً. الريح إشارة الزوال والتحرر، وانبعاث جديد لرائحة البذور والقمح في الحقول البعيدة، ورسالة المطر والبشارات والأعياد والسلام. 

وقد تأخذ الرياح شكل طاحونة الهواء؛ لبث معنى الخصوبة والتدفق والحصاد والأجنة.

وفي المقابل، تكون الريح حمالة وجه سوداوي؛ إذا تحولت إلى زوبعة، فتكسر الأجنحة، وتخلق دماراً وخراباً عظيمَيْن في الحياة. الزوبعة إشارة بدء الحرب والموت والهلاك والفقد. وعلى النقيض، تماماً، يُمكن أن تسبق الزوبعة الأمطار المخصبة. أما الدوامة، فهي اللولب الهوائي في الأشياء، باعتبارها مصدراً للحياة والطاقة الطبيعية، وقلب المياه الطبيعية، وهي تحيط بالجنين، وتلتف حوله برعاية وحنان.

الريح - كما ورد في الأثر - جند من جنود الله، والريش في الريح رمز ميثولوجي، دالٌّ على طواف الملائكة بالقرب من الإنسان العابر لبقعة جغرافية نائية عن محيط الطيور، ليتساءل: من أين جاء الريش ياتُرى؟.. حتى يبلغ سكينة الاطمئنان بوجود ملاك حارس يمضي بقربه، حافاً بأجنحته مدار السفر والأمل.

وتكون الريح حاملة لأجنحة النسر الشاهق في الأعالي، كمدلول آخر مضاف على القوة الشمسية الجانحة، وإشعاع الكبرياء والوقار.

وفي النقوش الحجرية في شبه الجزيرة العربية يكون نقش السهم دلالة على عبور الريح من جهة آمنة، ويرمز أيضاً إلى الغرق وهواء العاصفة، وهو رمز شمسي هوائي، ورمز المحارب المقبل كشعاع الشمس المخترق لسحب الظلام.

الرياح قد تجري بما لا تشتهي السفن، فتمضي بنا عكس التيار، وعكس الأنماط، وعكس الجماعات. هذا المسار العكسيّ هو - في حد ذاته - ولادة جديدة للتغيير، والتخلي عن نمط قديم صراعي تعصبي تجاه مبادئ بالية وزائفة أهلكت أمماً كبرى. الرياح تكسر النمط وتحرره من عبودية أفكار قُدِّستْ عبر السنين، وصنعت بطولات زائفة في تاريخ الخلائق.

أن تجلس على «بساط الريح» وتُسافر، كان ذلك ضرباً من الميثولوجيا السحرية، التي ورثت فكرة الانتقال بين بلدان الأرض. جلس «السندباد» عليه، وارتحل في الأصقاع. وعلى نفس البساط الطائر في الريح جلس «علاء الدين»، و«بدر البدور»، وتشبث به «الأربعون حرامي»، فأسقطتهم الرياح واحداً تلو الآخر في البراكين، ومواقع الزلازل الكبرى والزوابع ومنبت الجن والعفاريت. ولم يعد منهم أحد أبداً.. هكذا كانت الريح حامية لبساط العدالة والأمان والسلام.

وكان «بساط الريح» مفتتح التفاؤل لفكرة الانتقال بين الأبعاد الأرضية؛ ليأتي الإنسان المعاصر باختراعه الجديد، الذي يخترق به سبل الريح والبروق والرعود، غير عابئ بريش الملائكة وحدود الجن وأنظمة المناخ، ويطلق الصواريخ والقنابل الذرية والمدافع.. كل ذلك استحال إلى شكل موتٍ عبثيٍّ في الريح.

 لم يستأذن الناس الريح حين فجروا بين جوفها عواصف الحروب البشرية، فلوثوا الزمان والمكان والخيط الموصول بينهما.

اذهب للمصدر