رئيسة التحرير نسرين فاخر تكتب: ماذا لو كنتُ غيمة؟

7 hours ago 5

#مقالات رأي

نسرين فاخر اليوم

تتعدد الصور والمشاهد والمواقف في يومنا الذي يمرّ سريعاً، وفي ظهيرة صيفية ثقيلة، جلست أراقب الطيور من شرفة المنزل، تتنقّل فوق الرمال الحارقة، تبحث عن ظلٍ أو قطرة ماء، في محاولة فطرية للنجاة، وكأن الحياة كلّها انحصرت في لحظة واحدة.. ظلّ وماء.

بدا المشهد مألوفاً، لكنه لم يكن عابراً. تلك الكائنات الصغيرة التي تتحرّك بخفة وقلق أيقظت داخلي إحساساً قديماً، ورغبة دفينة بأن أشاركها هذا المسعى، أن أقدّم لها شيئاً، حمايةً، ظلاً، أو حتى غيمة.

لطالما استوقفتني مشاهد الحياة في أدق تفاصيلها، وحرّكت فيّ رغبة صامتة في العطاء، فلم أكن حيادية يوماً، ولم أمر بشكل سريع وخاطف أمام كائنات تبحث عن ملاذ لها، في هذا الحر القائظ، أشفق عليها، وتشتعل مخيلتي وكأنني فعلاً داخل هذه القصة، أبحث عن حلول لهذه الكائنات التي تمنحنا الأمل ومحبة الحياة، كيف أمد للحمام مظلة، أو كيف أرسم غيمة، أو أزرع مزيداً من الشّجر؟

في لحظة ما تمنيت أن أملك قدرة التحوّل، وفجأة، تقدّم السؤال في مخيلتي كطفلة ترفع يدها للسماء: ماذا لو كنتُ غيمة؟

في تلك اللحظة، نظرت إلى السماء، بحثت عنها.. مجرّد غيمة. لا نريد منها مطراً، ولا وعداً، فقط ظلاً مؤقّتاً، حضور بسيط، يؤمّن لنا لحظة راحة.. ويمضي.

أفكّر أحياناً، لو كنتُ غيمة، بلا وزن، بلا وجهة، بلا حقيبة أو موعد. أتنقّل بخفّة بين المدن، أظلّل من تعب، وأرخي ظلالي فوق قلوب تبحث عن لحظة سلام.. ثم أرحل بلا وداع. لا شيء يربطني إلا هذا التوق الداخلي لأمنح وأمضي، كأنني فكرة عابرة، أو حلم جميل لا يطلب شيئاً في المقابل.

أذكر حين توقفت عند إشارة المرور ذات ظهيرة، وتعطلت سيارة أمامي. نزل منها رجل بدا عليه الحرج والتعب، فاقترب منه رجلا شرطة وبدآ بدفع السيارة تحت شمس لاهبة. تأملت الموقف طويلاً، وقلت في نفسي: هناك من يمرون في حياتنا كأنهم غيوم، لا يطلبون شكراً ولا يتركون أسماءهم، لكنهم يمنحوننا ظلاً من ظلال الرحمة.

كذلك هي الغيوم، تأتي ثم تمضي، لكنها تترك أثراً ناعماً، خفيفاً، عميقاً. تمنح الشاعر بيتاً، وتلهم الفنان لوحة، وتمنح الكائنات أملاً بأن الحياة لا تزال تحتفظ بجمالها. تظهر فجأة، تلمسنا بلطف، وتختفي. لكنّها، رغم قصرها، تترك فينا شيئاً لا يزول.

قد نشتاق للغيم لأننا نشتاق لأنفسنا في لحظات كنّا فيها أخف، أنقى، أقلّ التصاقاً بالحياة. كنّا نعرف كيف نرتاح دون قلق.. كيف نُحبّ دون شروط.. وكيف نرحل دون خوف من النقص. مثل الفرح حين يأتي بعد تعب، والمطر حين يتأخّر، والنضج حين يولد من وجع.

قد لا نصبح غيمة يوماً، لكن يمكننا أن نتعلّم منها، أن نمنح دون أن نُثقل، أن نمرّ بخفّة، وأن نؤمن أن كل شيء، حين يأتي في وقته يكون كافياً تماماً. يكفي أحيانًا، أن نكون ظلًّا.. حتى نحيا في ذاكرة أحدهم، كغيمةٍ لم تمطر، لكنها ظللت.

فماذا لو كنتُ غيمة؟

اذهب للمصدر