كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجمعة عن مسودة ميزانيته الحكومية لعام 2026، والتي حملت مزيجًا مثيرًا للجدل من التخفيضات الكبيرة في الإنفاق الداخلي وزيادات ضخمة في الميزانية العسكرية والأمنية.
وبحسب المعطيات الرسمية، فإن ترامب خفّض النفقات الإجمالية بنسبة 22%، أي ما يعادل 163 مليار دولار، لكنه في الوقت ذاته رفع مخصصات وزارة الدفاع بنسبة 13%، ومخصصات الأمن الداخلي بنسبة غير مسبوقة وصلت إلى 65%.
هذه الأرقام ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل هي انعكاس مباشر لرؤية سياسية واقتصادية وعسكرية واضحة تسعى إدارة ترامب لترسيخها، داخليًا وخارجيًا.
"أمريكا أولًا"
منذ حملته الانتخابية، رفع ترامب شعار "أمريكا أولًا"، مُقدّمًا نفسه كمدافع شرس عن المصالح الوطنية الأمريكية في وجه ما يعتبره انحرافات سابقة في السياسة الخارجية والاقتصادية.
جاءت الميزانية الجديدة لتترجم هذا الشعار عمليًا: تقليص "الدولة العميقة" داخل المؤسسات الفيدرالية، تخفيض البيروقراطية، الحدّ من البرامج الاجتماعية، وفي المقابل، ضخّ المزيد من الموارد في الجيش وأجهزة الأمن لحماية الحدود ومصالح الولايات المتحدة حول العالم.
وبحسب مدير مكتب الإدارة والميزانية، روس فوت، فإن الميزانية "تُنهي تمويل تراجع أمريكا عالميًا، وتُعطي الأولوية للأمريكيين".
هذا الخطاب يُحاكي القاعدة الانتخابية لترامب، لكنه في الوقت نفسه يثير موجة اعتراضات واسعة من المعارضة الديمقراطية، وعلى رأسها زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، الذي وصف الميزانية بأنها "هجوم شامل على الأميركيين الكادحين".
تحضير لعمليات خارجية؟
تُثير الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري تساؤلات مشروعة: هل تهيّئ إدارة ترامب الأرضية لتحرّكات عسكرية جديدة خارج حدود الولايات المتحدة؟
الميزانية تستثني 17 فئة محددة من التخفيضات، على رأسها العمليات الأمنية على الحدود مع المكسيك، تحديث الترسانة النووية، والدفاع الصاروخي. لكن اللافت أنها لا تمنح الأولوية للقيادة الأوروبية المسؤولة عن الملف الأوكراني، ولا القيادة المركزية في الشرق الأوسط، ولا القيادة الأفريقية.
هذا الترتيب يعكس تحوّلًا استراتيجيًا، إذ يبدو أن ترامب يُعيد تركيز الجيش الأمريكي بعيدًا عن الملفات الكلاسيكية (أوروبا، الشرق الأوسط) نحو ملفات جديدة ربما ترتبط بمواجهة الصين، احتواء كوريا الشمالية، أو تأمين ما يعتبره "الحديقة الخلفية" الأمريكية في نصف الكرة الغربي.
وفي هذا السياق، يُشار إلى أن وزارة الدفاع تعمل على مراجعة ميزانيتها لتوفير 50 مليار دولار إضافية، بهدف إعادة توجيهها إلى برامج تتماشى مع أولويات ترامب، وهو ما يُعزز من احتمال ظهور استثمارات عسكرية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، الحرب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي.
أزمة ديون
على الرغم من الحديث عن التقشف، تواجه الولايات المتحدة أزمة ديون تاريخية تبلغ 36 تريليون دولار، وسط تحذيرات من أن تمديد تخفيضات ترامب الضريبية لعام 2017 قد يُضيف ما يصل إلى 5 تريليونات دولار إضافية للدين العام.
الجمهوريون في الكونغرس يسعون جاهدين لتمرير قانون تخفيض الضرائب بحلول الرابع من تموز/ يوليو، لكن ذلك يفتح الباب أمام مفارقة واضحة: كيف يمكن إدارة خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري مع الحفاظ على استقرار الميزانية العامة؟
وبالإضافة إلى ذلك، تفرض سياسات ترامب الحمائية، بما فيها الرسوم الجمركية المرتفعة التي تهدد التجارة العالمية، ضغطًا إضافيًا على الاقتصاد الأمريكي، وقد تؤدي إلى زعزعة استقرار الأسواق وإبطاء النمو.
وعلى المستوى السياسي، يمكن فهم هذه الميزانية كأداة مزدوجة تخدم ترامب في الداخل والخارج: داخليًا، تُخاطب قاعدته الشعبية من المحافظين، خاصة أولئك الذين ينظرون بعين الشك إلى الحكومة الفيدرالية ويرون في خفض حجمها أولوية قصوى. وخارجيًا، تُرسل رسالة واضحة للحلفاء والخصوم مفادها أن الولايات المتحدة عازمة على استعادة قوتها العسكرية، ولن تتردّد في حماية مصالحها الأمنية والاقتصادية.
غير أن هذه المقاربة ليست بلا ثمن، فخفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم يُهدد بتوسيع الفجوات الاجتماعية، في وقت يحتاج فيه الأمريكيون إلى دعم ملموس لمواجهة تحديات البطالة، التضخم، وضعف القدرة الشرائية.
وصحيح أن الكونغرس غالبًا ما يُدخل تعديلات كبيرة على مشروع الميزانية الرئاسية، إلا أن وضع ترامب السياسي يختلف عن أسلافه، إذ يتمتع بنفوذ استثنائي على الأغلبية الجمهورية، مما يُعزز حظوظه في تمرير جزء كبير من مقترحاته.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من الانقسامات داخل المعسكر الجمهوري نفسه، لا سيما في ظل قلق بعض المحافظين الماليين من تأثير الميزانية الجديدة على عجز الموازنة والدين العام.
في المحصلة، تُعتبر ميزانية ترامب لعام 2026 أكثر من مجرد وثيقة مالية؛ إنها إعلان نوايا سياسي واستراتيجي يُحدّد ملامح إدارة مصممة على إعادة تشكيل دور الولايات المتحدة في الداخل والخارج.
أمام هذا المشهد، ستبقى الأشهر المقبلة حاسمة في اختبار قدرة ترامب على تنفيذ أجندته، وقد تكون أيضًا اختبارًا حقيقيًا لصلابة النظام السياسي الأمريكي في مواجهة استقطابات حادة وتحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة.