أعادت دراسة حديثة، أجراها الباحثان الدكتورة دوروتا دزييرزبيكا والدكتورة داريا إيلاجينا، فحص وترجمة مخطوطة نادرة من مصدر مباشر لراهب إثيوبي من القرن السادس عشر زار دنقلا القديمة في السودان.
وتم نشر هذا العمل في مجلة "آزانيا: البحوث الأثرية في أفريقيا".
وبحسب تقرير نشره "Phys.org" وترجمته "عربي21"، فقد نُسخت بيانات المخطوطة وتُرجمت إلى اللاتينية لأول مرة في ثلاثينيات القرن العشرين بعد أن حُفظت في مكتبة الفاتيكان لقرون.
ولم يعرف الجمهور عن وجود هذه النسخةُ إلا في تسعينيات القرن العشرين عندما لفت تشيكاريلي- مورولي انتباهَ علماء الدراسات النوبية إليها، مُبيّنا أن دنقلا أصبحت بالفعل مجتمعا ذا أغلبية مسلمة بحلول القرن السادس عشر.
مع ذلك، كان النطاق الحقيقي للمعلوماتِ التي احتوتها بياناتُ المخطوطة أكبرَ بكثير، ولكن لم يُدرَك ذلك إلا مؤخرا.
اظهار أخبار متعلقة
أوضحت الدكتورة دزييرزبيكا والدكتورة إيلاجينا، أن هذا يُعزى على الأرجح إلى صعوبة الوصول إلى الوثيقة وفهمها. "ليس من المُستغرب أن أهمية بيانات المخطوطة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي قد غابت إلى حد كبير حتى الآن. فقد كان من الصعب الوصول إلى طبعة الثلاثينيات والترجمة اللاتينية لبيان النسخ، وكان التعليق محدودا للغاية" .
وأضافا "علاوة على ذلك، ولأن النص مكتوب بالإثيوبية، فقد أغفله الباحثون في الدراسات النوبية بسهولة، والذين يعملون عادة مع مصادر باليونانية والقبطية والنوبية القديمة والعربية".
وأشارا إلى أنه "من ناحية أخرى، فإن البيئة التي يصفها بعيدة كل البعد عن إثيوبيا، مما يضعها خارج نطاق اهتمام الدراسات الإثيوبية. يتطلب هذا المصدر الفريد جهدا تعاونيا متعدد التخصصات لتقدير قيمته بالكامل".
يتبع النص سلسلة من الترانيم الدينية (الملك) ليسوع المسيح والسيدة العذراء مريم، كتبها الراهب الإثيوبي تكلا ألفا في القرن السادس عشر أثناء إقامته في دنقلا.
تقدم هذه المخطوطة (تكلا ألفا) سياقا هاما للحفريات الأثرية الحديثة التي أجراها مشروع "أمة" للدراسات المدعومة من المجلس الأوروبي للأبحاث (التابع للمفوضية الأوروبية].
"أمة" هي اختصار لعبارة "التحول الحضري لمجتمع عاصمة أفريقية من العصور الوسطى".
وأُجري المشروع في دنقلا بين عامي 2018 و2024 من قِبل فريق من المركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط بجامعة وارسو، برئاسة آرتور أوبلوسكي. وكان من بين أهدافه الرئيسية دراسة التغيرات الاجتماعية والدينية في دنقلا عقب انهيار مملكة المقرة المسيحية.
تشير المجمّعات المنزلية إلى مجتمع كان قائما على المساواة إلى حد ما، باستثناء مبنى ضخم جدا، يُسمى "بيت المك"، أو الملك، والذي كان يسكنه بوضوح أفراد من النخبة.
وشملت المقتنيات التي عُثر عليها داخله حريرا، وكرات بنادق، وعملات معدنية، وغيرها من القطع الأثرية المرموقة. ومن المهم أن من بين ما عُثر عليه من حفريات مشروع أمة رسائل ووثائق وتمائم مكتوبة باللغة العربية.
وأوضح الباحثان أن "كون العديد من هذه النصوص قد صدر من بيت المكّ يربطهم بالنخب، حتى أن أحدها قد ألّفه ملك دنقلا يُدعى قشقش أو قوشقوش. إن وجود الكتابة العربية، بالإضافة إلى الاختفاء شبه الكامل للخنازير من السجلات الأثرية، يُعَدّان من المؤشرات المهمة على الانتقال إلى الإسلام".
وأشار التقرير إلى أنه من الأمور ذات الأهمية الخاصة ذكر تكلا ألفا لتجار "الجلابة" في دنقلا. تُمثّل هذه الإشارة أقدم استخدام معروف لهذا المصطلح في المصادر المتعلقة بالسودان، مما يُؤخّر الوجود الموثّق لهذه الطبقة التجارية بأكثر من قرن.
وفقا للدكتورة دزييرزبيكا والدكتورة إيلاجينا، فإن كلمة "جلابة" "مشتقة من اللغة العربية، وتعني تجار المسافات الطويلة، وهي في الواقع أقدم ذكر معروف لهذا المصطلح في مصادرنا المتعلقة بالسودان. في القرون اللاحقة، ذُكر الجلابة كثيرا كمشغلي قوافل على شبكة طرق تربط مناطق مصر والسودان وتشاد الحديثة. ويُظهر ذكرهم في هذا النص أنهم كانوا بالفعل فئة اجتماعية مهمة في أواخر القرن السادس عشر، وأن الطرق التي سلكوها في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت قيد الاستخدام بالفعل".
لا يكشف هذا فقط عن ظهور مبكر لهذه الطبقة التجارية عما كان يُعتقد سابقا، بل يُقدم أيضا سياقا لتاريخ تحول دنقلا إلى مركز تجاري مهم.
اظهار أخبار متعلقة
وهذا بدوره يوفر رؤى حول بعض السلع المستوردة التي عُثر عليها خلال الحفريات الأثرية، كما أوضحت الدكتورة دزييرزبيكا والدكتورة إيلاجينا، حيث قالا "تُظهر الاكتشافات الأثرية تدفقا مستمرا للسلع المستوردة إلى المدينة، معظمها من مصر أو عبرها، وخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر".
وأوضح الموقع أن ذكر تكلا ألفا للجلابة والنشاط الواضح على الطريق الطويل الذي أراد اتباعه من إثيوبيا، عبر دنقلا، إلى مصر وما بعدها إلى القدس، يُعطي سياقا للأشياء غير المحلية التي عُثر عليها أثناء الحفريات. الأهم من ذلك، أن المخطوطة تُظهر أن تجارة السلع هذه كانت مزدهرة بالفعل في القرن السادس عشر، وهو ما يعاني من ندرة الأدلة المتوفرة".
علاوة على ذلك، ووفقا لمخطوطة تكلا ألفا، كان جميع سكان دنقلا قد اعتنقوا الإسلام بحلول عام 1596، أي قبل وقت طويل مما افترضته مصادر علمية أخرى.
تقدم مخطوطة تكلا ألفا لمحة نادرة عن دنقلا في القرن السادس عشر، وتُكمل الحفريات الأثرية الحديثة. كما تقدم رواية مباشرة تُفصّل كيف كانت دنقلا بالفعل مدينة إسلامية بالكامل بحلول أوائل القرن السادس عشر، بالإضافة إلى كونها مركزا تجاريا مزدهرا.