تبعث طهران برسائل متباينة؛ تجمع بين الإغراء الاقتصادي والتمسك بموقفها في الملف النووي؛ فبينما يلوّح الرئيس الإيراني بتصريحات توحي بانفتاح غير مسبوق تجاه الاستثمارات الأميركية، تتزامن هذه الإشارات مع تدهور اقتصادي داخلي وضغوط دولية متصاعدة، في وقت تتحرك فيه إدارة دونالد ترامب على نحو يوحي بإعادة ترتيب أوراق التعامل مع طهران والسعي لاتفاق جديد بعد التصعيد الأخير.
تكشف التحركات الدبلوماسية من خلف الكواليس عن محاولات أميركية لإحياء مسار تفاوضي مشروط. فيما يبدو أن إيران تراهن على شخصية ترامب "التجارية" لإحداث اختراق في الجمود الراهن، من خلال الترويج لفكرة أن السوق الإيرانية قادرة على استيعاب استثمارات أميركية ضخمة قد تصل إلى تريليونات الدولارات.
في المقابل، يبقى موقف واشنطن حذراً ومتعدد المستويات؛ فهي ترسل إشارات استعداد للانخراط في صفقة كبرى، لكنها في الوقت ذاته لا تُخفي نواياها باستخدام أدوات الردع الاستباقي لقطع الطريق على أي محاولة إيرانية لإعادة ترتيب أوراقها النووية والعسكرية.
هل تغازل إيران ترامب؟
قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الاثنين، إن المرشد الأعلى للبلاد، علي خامنئي، يعتقد بأن المستثمرين الأميركيين يمكنهم القدوم إلى إيران.
وكتب بزشكيان في منشور على منصة "إكس": بعد أسابيع من الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران: "في محادثة أجريناها مع المرشد الأعلى، كان يعتقد بأن المستثمرين الأميركيين يمكنهم القدوم إلى إيران وليس هناك أي عقبات أمام أنشطتهم... وللأسف، فإن إسرائيل هي التي لا تسمح بالسلام في المنطقة".
وفي شهر مايو الماضي، كان وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، قد قال إنّ بلاده لا تعارض عمل الشركات الأميركية في البلاد، بما في ذلك في قطاع النفط والغاز، مضيفاً: "لم نمنع الوجود الاقتصادي للشركات الأميركية في إيران"، فيما أرجع غياب الأنشطة التجارية الأميركية إلى العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران.
في سياق متصل، كانت تقارير قد نسبت إلى مسؤولين في إدارة ترامب قولهم إن واشنطن عرضت على طهران دعم برنامج نووي مدني ستنشئه من خلال استثمارات (بقيمة من 20 إلى 30 مليار دولار) من حلفائها في المنطقة؛ في محاولة لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات.
وبحسب التقارير، فقد عُرض على الإيرانيين أيضاً تخفيف العقوبات والإفراج عن نحو ستة مليارات دولار من الأصول المجمدة في مناقشات جرت خلف الكواليس، بما في ذلك أثناء العملية الإسرائيلية داخل إيران. وذلك مع شرط واحد غير قابل للتفاوض، وهو وقف تخصيب اليورانيوم تماماً من قِبل إيران، وهو ما رفضت إيران الالتزام به حتى الآن.
إقناع الإدارة الأميركية
من جانبه، يقول الباحث في الشؤون الإيرانية، محمد العبادي لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"،
- يروّج الإيرانيون لفكرة أن السوق الإيرانية قد تفتح أبوابها أمام الشركات الأميركية، باستثمارات ضخمة قد تتراوح بين تريليون وأربعة تريليونات دولار.
- هذه الوعود تستهدف إغواء الإدارة الأميركية بمنطق "التاجر" الذي يغلب على شخصية ترامب، وإقناعه بأن التهدئة والاتفاق أفضل من الصدام.
- معظم التحليلات ترى أن ترامب قد يستجيب لهذا الإغراء، خاصة وأنه بدأ يطلق سلسلة من التصريحات العلنية التي توحي بأن الاتفاق بات قريباً، وأنه يضغط على إسرائيل لوقف أي خطط هجومية ضد إيران.
- بدا وكأن طهران تراهن على إحداث شرخ في الموقف الأميركي–الإسرائيلي، وتفكيك الضغط الأقصى من الداخل.
ويضيف: لكن ذلك الرهان يكشف عن جانب بالغ الخطورة في قراءة الإيرانيين للمشهد، ذلك أن إدارة ترامب ليست غافلة عن مسألة الاستثمار ولا عن قيمة السوق الإيرانية، لكنها في المقابل تتبنى مقاربة مزدوجة: التلويح بالصفقة من جهة، واستخدام القوة الاستباقية من جهة أخرى.
ويلفت إلى أن الولايات المتحدة تبعث برسائل استراتيجية مركبة، أنها مستعدة للانخراط في مفاوضات، لكنها لن تسمح لإيران بإعادة ترتيب أوراقها العسكرية تحت ستار الدبلوماسية.
وضع الاقتصاد الإيراني
يأتي ذلك في وقت يرزح فيه الاقتصاد الإيراني تحت وطأة ضغوطات متواصلة منذ سنوات، لا سيما في ظل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية.
وفي هذا السياق، يشير تقرير لمجلة الإيكونوميست إلى أنه:
- حتى قبل بدء (حرب الـ 12 يوماً) كان الاقتصاد الإيراني في حالة سيئة.
- كان 6 من كل 10 أشخاص في سن العمل عاطلين عن العمل.
- ارتفعت الأسعار بنسبة 35 بالمئة خلال العام الماضي.
- كان حوالي 18 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر الذي حدده البنك الدولي.
- من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الإيراني بنسبة 1.6 بالمئة خلال الاثني عشر شهرًا القادمة، وفقًا للبنك الدولي.
- لطالما واجهت إيران بعضًا من أقسى العقوبات في العالم. بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خفف الغرب شدتها بعد موافقة إيران على إنهاء برنامجها النووي عام 2015 قبل أن يُشددها مجدداً عندما انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق عام
- فُرضَت أحدث هذه الإجراءات ردًا على دعم إيران لحرب روسيا ضد أوكرانيا، ثم بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض. ويُحظر على الشركات الغربية شراء النفط الإيراني، أكبر صادرات البلاد، والتعامل مع بنوكها.
في عام 2018، وهو آخر مرة سمحت فيها إيران لصندوق النقد الدولي بتفتيش مواردها المالية، صدّرت البلاد نفطًا بقيمة 46 مليار دولار، أي ما يُعادل حوالي نصف إجمالي صادراتها. ويعتقد المسؤولون الأمريكيون بأن هذه النسبة تُقارب الثلث اليوم. ويُعتقد بأن إيران تُصدّر هذا العام 1.7 مليون برميل يومياً، وهو نفس مستوى العام الماضي تقريباً، حتى مع احتمال انخفاض الإنتاج خلال الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.
علاوة على ذلك، لا تقتصر العقوبات على النفط فحسب. فـ"القائمة السوداء" للأفراد المستهدفين، التي تحتفظ بها وزارة الخزانة الأميركية، تضم آلاف الأسماء، وتتزايد شهراً بعد شهر. وتُحظر على الشركات الغربية التعامل مع نظيراتها في جميع الصناعات الإيرانية تقريبًا، بما في ذلك السيارات والمعادن والتعدين والمنسوجات. ولا يُعفى من هذه العقوبات سوى المزارعين وشركات الأدوية التي تُزود الشعب الإيراني؛ إذ لا تزال هذه الشركات تواجه إجراءات ورقية مُزعجة.
جذب الاستثمارات
الباحث في الشؤون الإيرانية، علي عاطف، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- تسعى إيران إلى تحفيز وجلب الاستثمارات الأميركية إلى الأسواق الإيرانية في إطار المحادثات النووية المقبلة، وأيضاً وفقاً لما عبر عنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من استعداد إدارته لاستثمار مبالغ ضخمة في الأسواق الإيرانية حال التوصل إلى اتفاق نووي.
- تسعى إدارة ترامب إلى تشجيع الحكومة الإيرانية على تقييد عمليات تخصيب اليورانيوم والتوصل لاتفاق نووي عبر الورقة الاقتصادية ووعود ادخال استثمارات ضخمة في الاقتصاد الإيراني.
ويضيف: مع ذلك، يمكن القول إن مسألة جلب استثمارات أميركية ضخمة إلى الأسواق الإيرانية هي رهينة لإمكانية واحتمالات التوصل لاتفاق نووي بالأساس، كمان أن البنى التحتية في إيران قد تستلزم وقتاً لإصلاحها وتطويرها كي تتمكن من احتواء هذه الاستثمارات.