مكة

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، رسم للكعبة يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر
  • Author, محمد عبد الرؤوف
  • Role, بي بي سي عربي
  • قبل 39 دقيقة

يُعدّ الطواف حول الكعبة في مكة من المناسك الرئيسية لشريعة الحج عند المسلمين. وبينما يطوف ملايين الحجاج حول الكعبة، فإن الكثير منهم يسعون جاهدين للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله - عملًا بسنة النبي محمد - في مشهد يتكرر منذ أكثر من 1400 عام هجري.

لكن، وبحسب كتب التاريخ الإسلامي، فإن الحجر الأسود غاب عن مكة لأكثر من عشرين عاماً، بعدما تعرّضت لهجوم دموي قبل نحو 1100 عام، في ظل خلافات دينية وسياسية عنيفة.

إذ شهدت مكة في عام 317 للهجرة الموافق 930 للميلاد، هجوماً نفذه أتباع فرقة القرامطة، الذين قاموا أيضاً بقتل حجاج، واقتلاع الحجر الأسود، ونقله إلى عاصمتهم التي تقع حالياً في الأحساء بالمنطقة الشرقية من السعودية.

من هم القرامطة؟

تشير الكتب التراثية التي تناولت تاريخ الفرق الإسلامية إلى أن القرامطة هم أتباع حركة دينية وسياسية نشأت من رحم الدعوة الإسماعيلية في القرن الثالث الهجري، لكنها سرعان ما انشقت عنها وشكّلت فرعاً تبنى تأويلات دينية وسياسية راديكالية.

والإسماعيلية بدورها هي إحدى الفرق الشيعية التي نشأت في ظل الاختلافات والتباينات العقائدية الكبيرة التي شهدها الإسلام في قرونه الأولى.

فالشيعة – الذين يرون أن الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد وزوج ابنته فاطمة، هو خليفته – تفرّقوا إلى جماعات مختلفة، تباينت فيما بينها في مسألة خطّ توريث الإمامة.

وتشير كتب الفرق الإسلامية إلى أنه عقب رحيل الإمام جعفر الصادق، الذي يمتد نسبه المباشر إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وقع انقسام بين فرقتين من الشيعة سيكون لهما شأن كبير في العالم الإسلامي لاحقاً.

فقد قال فريق من الشيعة – الذين يمثلون الشيعة الاثنا عشرية – إن الإمام الصادق اكتفى بالإفصاح عن اسم الإمام الذي يليه عند خواص شيعته، وبذلك انتقلت الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم، لتنتقل من بعده إلى ابنه علي بن موسى الرضا، وصولاً إلى الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري، الذين يعتقدون أنه المهدي المنتظر.

أما الفريق الآخر، وهم الشيعة الإسماعيلية، فقد قالوا بانتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، سواء لإيمان بعضهم بأن إسماعيل لم يمت خلال حياة أبيه، بل اختفى هرباً من الاضطهاد، أو لأنه، بحسب البعض الآخر، مات خلال حياة أبيه، لتنتقل الإمامة إلى ابنه محمد بن إسماعيل.

وفي أواخر القرن الثالث الهجري، تواصلت الانقسامات داخل الشيعة الإسماعيلية، وبرز انقسام جديد بين فريقين بارزين.

فقد ذهب فريق إلى الاعتقاد بأن محمد بن إسماعيل لم يمت، وأنه هو المهدي المنتظر، ومنهم القرامطة.

أما الفريق الآخر، فقال بتواصل خط الإمامة من بعد محمد بن إسماعيل، وصولاً إلى الحكام الفاطميين الذين أسسوا خلافة كبرى نافست الخلافة العباسية السنية في القرن الرابع الهجري، وامتدت دولتهم عبر شمال إفريقيا ومصر وبلاد الشام والحجاز في القرن الرابع الهجري.

ارتبط اسم القرامطة بداعية إسماعيلي يعرف باسم حمدان قرمط.

وتختلف الروايات حول سبب تسميته بهذا الاسم؛ فبعضها يرى أن كلمة "قرمط" ذات أصل أرميني، وأنها أطلقت عليه إما بسبب قصر قدميه أو حمرة عينيه.

ونشط حمدان قرمط في الكوفة بجنوب العراق والمنطقة المحيطة بها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، لتصل تعاليمه إلى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي مثل اليمن والشام وإقليم البحرين – وهي التسمية القديمة التي كانت تطلق على مناطق شرق الجزيرة العربية بالإضافة إلى جزر البحرين.

في الوقت الذي كان قرامطة البحرين يعززون سلطانهم في شبه الجزيرة العربية كان العالم الإسلامي يشهد الكثير من التطورات الكبيرة.

فالخلافة العباسية شهدت في القرن الرابع الهجري فقدانها للكثير من سلطتها.

إذ نشأت الكثير من الدول والإمارات في مناطق مختلفة، وهو ما لم يمثل خروجاً على السلطة السياسية للخلفاء العباسيين في بغداد فقط، بل نال كذلك من سلطتها الدينية السنية في بعض الأحيان. فالحكام الفاطميون على سبيل المثال، أسسوا خلافة موازية كانت تدين بالمذهب الشيعي الإسماعيلي.

ويشير الأكاديمي الألماني أدم متز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"، إلى أن الأمر وصل في وقت ما من القرن الرابع الهجري إلى أن الخليفة العباسي لم تكن له أي سلطة سياسية سوى في بغداد ومحيطها.

(صورة لعملات فاطمية عُثر عليها بالقرب من القدس).

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، شهد القرن الرابع الهجري تشكل دول وإمارات نافست الخلافة العباسية كالدولة الفاطمية

وكانت من بين التحديات الأخرى التي تعرضت لها الخلافة العباسية، الانتفاضات والثورات التي امتزجت فيها العناصر الدينية مع التطلعات السياسية والاقتصادية كما حدث في ثورة الزنج في جنوب العراق، وثورة بابك الخرمي في بلاد فارس القرن الثالث الهجري.

وسواء تأثر القرامطة بتلك الثورات أم لا فإنهم شكلوا بدورهم تحدياً للخلافة العباسية ومثلوا تهديداً لسلطتها الدينية والسياسية وخاضوا ضدها الكثير من المعارك. لكن أجواء العداء تلك تخللتها فترات من السلم النسبي، بل والتعاون في بعض الأحيان.

ولم تكن قائمة أعداء القرامطة قاصرة على الخلفاء العباسيين السنة، بل شملت أيضاً الفاطميين الذين يدينون بالعقيدة الشيعية الإسماعيلية.

ولم يكن الخلاف العقائدي بين القرامطة والفاطميين حول تسلسل الإمامة هو السبب الوحيد للعداء بين الفريقين، بل إن سطوع نجم الفاطميين وسيطرتهم على مناطق متاخمة للأراضي التابعة للقرامطة كان كذلك من الأمور التي دفعت الفريقين إلى الاقتتال.

ومثلما كان الحال مع العباسيين، فإن علاقات القرامطة مع الفاطميين شهدت فترات ودّ وتعاون في بعض الأحيان.

أبو طاهر والهجوم على مكة

تشير كتب التاريخ الإسلامي إلى أن رئاسة قرامطة البحرين آلت إلى زعيم لهم يدعى أبو طاهر الجنابي عام 311 هجرياً الموافق 923 ميلادياً.

وفي عام 317 أقدم أبو طاهر وجماعته على الهجوم على مكة خلال موسم الحج في مشهد سردت كتب التاريخ تفاصيله بشكل درامي دموي.

إذ تفيد الروايات التاريخية بأنه وبعد وصول قافلة الحجاج الرئيسية إلى مكة، بدأت الأخبار عن قدوم أبي طاهر والمئات من جنوده وفرسانه، ليخرج أمير مكة مع وفد من الأعيان محاولين استرضاءه بالمال، وهو ما رفضه القائد القرمطي ليدور قتال أسفر عن انتصار القرامطة الذين دخلوا مكة وقتلوا أعداداً كبيرة من الحجاج وسخروا من قدسية مكة والحج وخلعوا باب الكعبة واقتلعوا الحجر الأسود. وتتباين أعداد القتلى عند المؤرخين لتصل إلى عشرات الآلاف.

صورة حديثة للحجر الأسود

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، صورة حديثة للحجر الأسود

البروفسيرة شينويل جيوا المختصة بالتاريخ الفاطمي في معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن قالت في مقابلة مع بي بي سي إنه يجب التعامل بحذر مع الروايات المتأخرة المتعلقة بالقرامطة لأنها جاءت على لسان خصومهم: "القرامطة كانوا أشبه بالخوارج، كانوا في عداء مع الجميع حتى مع الفاطميين".

وترى جيوا أن من أسباب قيام القرامطة باقتلاع الحجر الأسود هو رغبتهم في اجتذاب الحجاج إلى معقلهم في إطار العداء بينهم وبين العباسيين.

ويشير الأكاديمي المختص في الدراسات الإسماعيلية فرهارد دفتري في كتابه "تاريخ الإسلام الشيعي" إلى أن أبا طاهر الجنابي كان يتنبأ في تلك الآونة - بناءً على حسابات فلكية - بقدوم المهدي المنتظر و"بدء الدور الختامي للتاريخ حيث لا مكان للشريعة".

كان لهجوم القرامطة على مكة تأثير نفسي كبير في العالم الإسلامي، رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي تتعرض فيها لهجمات دموية جراء الخلافات السياسية بين المسلمين كما حدث في زمن الأمويين.

وتفيد روايات في كتب التاريخ أن الخليفة العباسي والخليفة الفاطمي سارعا بمراسلة أبي طاهر في مسعى لإعادة الحجر الأسود إلى مكة، دون جدوى، بينما لم يلجأ العباسيون أو الفاطميون - الذين كانوا وقتها يسيطرون على شمال إفريقيا (تونس وشرق الجزائر) - للقوة العسكرية لإجبار القرامطة على إعادة الحجر الأسود.

ورغم ذلك واصل المسلمون أداء شعيرة الحج رغم عدم وجود الحجر الأسود، بل إن هناك روايات تتحدث عن قيام الحجاج بوضع أيديهم في موضعه القديم ليغمرونه بالتقبيل.

أما القرامطة فقد كانوا على موعد مع أزمة داخلية بعد عامين من الهجوم على مكة، إذ خرج بينهم رجل – تختلف الروايات حول اسمه – مدعيًا كونه المهدي المنتظر ونجح في حملهم على الاعتراف به قبل أن يرتاب زعماء القرامطة في أمره ويقتلوه.

أما أبو طاهر فيُعتقد أنه توفي عام 334 للهجرة.

وبعد 22 عاماً أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، ويختلف المؤرخون حول السبب وراء الأمر.

فبينما يرى البعض أن قرار إعادة الحجر الأسود جاء بعد أن دفع العباسيون مبلغاً كبيراً من المال للقرامطة، تحدثت مصادر أخرى عن أن القرار جاء نزولاً عند إشارة من الخلفية الفاطمي.

لكن الدكتورة شينويل جيوا تشير إلى احتمال أن تكون لحادثة الشخص الذي ادعى الإمامة وسط القرامطة ومقتله تأثير على مصداقيتهم بين أتباعهم ما أثر سلباً على قوتهم ودفعهم إلى إعادة الحجر الأسود.

واستمرت سيطرة القرامطة على البحرين حتى النصف الثاني من القرن الخامس الهجري حوالي عام 470 هجرياً (1077 ميلادياً) لتتفكك الجماعة القرمطية.

مساواة و"اشتراكية"

جاء الهجوم على مكة ليذكي من حجج خصوم القرامطة، الذين اتهموا أبا طاهر وجماعته بالعداء للإسلام، بل ووجهوا سهام النقد للعقيدة الإسماعيلية في مجملها.

وحملت روايات تاريخية اتهامات للفاطميين بالوقوف وراء الهجوم على مكة في إطار توجه إسماعيلي عام يقلل من أهمية فريضة الحج إن لم يكن يتخذ منها موقفاً سلبياً.

لكن الدكتورة شينويل جيوا ترى أن تلك الاتهامات التي وردت في كتابات مؤرخين وفقهاء عباسيين، ظهرت في فترات متأخرة وجاءت في إطار الحرب الدعائية بين العباسيين والفاطميين، مستشهدة برسالة أوردها المؤرخ المقريزي، الذي عاش في زمن المماليك، أرسلها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى زعيم القرامطة يوبخه فيها ويوجه إليه عبارات قاسية فظة.

ولم يكن الهجوم على مكة هو الأمر الوحيد الذي يثير خلافات بين المؤرخين بشأن القرامطة، بل كان موقفهم من توزيع الثروات في زمنهم مثار جدل.

فكتب التاريخ الإسلامي تحمل روايات تمتزج فيها الإشارة إلى نوع من المساواة في توزيع الثروات داخل مجتمعات القرامطة بحديث عن شيوعية اقتصادية وتحرر اجتماعي، ما دفع مؤرخين معاصرين إلى وصفهم بـ"رواد اشتراكيين" سعوا إلى محاربة النظام الإقطاعي القائم على استعباد المهمشين، وهو ما يراه فريق آخر من المؤرخين مبالغة.

لكن في النهاية فإن ذكرى القرامطة تظل راسخة بشكل سلبي في أذهان كثير من المسلمين بسبب حادثة الهجوم على مكة واقتلاع الحجر الأسود.