#تنمية ذاتية
لاما عزت اليوم
في عالمٍ لا يهدأ، حيث تتداخل الأصوات الخارجية مع الضجيج الداخلي، تصبح الحاجة إلى «توقف ذهني» أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. الحديث هنا لا يدور عن إجازة في جزيرة بعيدة، أو عن استرخاء مؤقت تحت ضوء الشموع، بل عن مفهوم عميق يُعرف في علم النفس الحديث باسم Mind Detox أو «الديتوكس الذهني»، وهي حالة واعية من إعادة التوازن الداخلي، تهدف إلى تصفية الفكر، وتقليل التوتر، والتخلص من التفكير المفرط والقلق المزمن الذي يستنزفنا بصمت.
في هذا الملف، نغوص برفقة الدكتور آرام حسن، استشاري الطب النفسي والمعالج في المركز الأميركي النفسي والعصبي، في أعماق هذا المفهوم. نستعرض الفرق بين الاسترخاء الواعي والهروب الذهني، ونتعرّف إلى الأدوات النفسية التي تساعدنا على كسر دوائر الاجترار، ونُقدّم اختباراً بسيطاً يساعدك على معرفة ما إذا كان عقلك بحاجة إلى «عطلة» منك أنت.
-
«الديتوكس الذهني».. عندما يحتاج العقل إلى مساحة تنفس
يوضح الدكتور آرام حسن أن «الديتوكس الذهني» مصطلح جديد في علم النفس والطب النفسي، والذي يشير إلى عملية إزالة «السموم الفكرية» التي تُثقل الدماغ: القلق، التفكير المفرط، والمشاعر العالقة التي لم يُمنح لها وقت للتصريف. ويوضح أن «الديتوكس الذهني» ليس انسحاباً من الحياة، بل إعادة ترتيب الداخل ويقول: «إنه أشبه بصيام عقلي، يتيح للدماغ أن يلتقط أنفاسه بعيداً عن اجترار الذكريات، والتفكير في سيناريوهات لم تحدث بعد، أو لن تحدث أصلاً».
ليس كل استراحة.. راحة
من السهل أن نخلط بين الاسترخاء الواعي والإلهاء المُقنَّع، قد نعتقد أننا نرتاح حين نغرق في مسلسل طويل أو نتصفح تطبيقات التواصل، لكن العقل يظل في حالة استهلاك صامتة. يقول د. آرام: «الاسترخاء الحقيقي يعني التواجد الكامل في اللحظة، بينما الإلهاء غالباً ما يكون هروباً من الشعور، أو من مهمة مؤجلة». ويشير إلى أن الفرق بينهما هو الوعي. حين نختار التوقف بقرار داخلي لإعادة التوازن، فهذه راحة. أما حين نتهرب من مواجهــــــــة مشاعر أو قرارات مؤجلة، فنحن نُغذي الفوضى الذهنية بأدوات مؤقتة.
كيف يؤثر التفكير المفرط في أجسادنا؟
يعمل الدماغ كقائد أوركسترا للجسد، وحين يُصاب بالتوتر المزمن نتيجة التفكير المفرط، تتعطل المنظومة بأكملها. وفقاً لـ د. آرام، يمكن رصد آثار ذلك في ضغط الدم، ضربات القلب، وحتى في فحوصات الدم التي تكشف عن ارتفاع في مؤشرات التوتر. كما يُحذر من أن التفكير المفرط قد يتحول إلى اضطراب نفسي، كالاكتئاب أو القلق العام أو الوسواس القهري، إذا لم يُتم التعامل معه مبكراً.
«الأنا الصوتية».. من يهمس في الداخل؟
من أبرز أسباب التلوث الذهني، ما يسميه د. آرام بـ «الأنا الصوتية»، وهو ذلك الصوت الداخلي الذي قد يكون مشجعاً أو مُحبطًا. هو صدى انعكاس الأفكار المتراكمة في الذهن المرتبط بذكريات الماضي والطفولة والمشاعر المرافقة لها كالخوف، ويتم تفعيلها من خلال أفكار أو منبهات أخرى. يشرح: «صوت الذات الحقيقية هادئ، منطقي، ومبني على القيم. أما صوت الخوف، فهو عالٍ، سريع، ومشحون بمشاعر نقص مزمنة».
ويتابع: «الصوت الداخلي يتكوّن من برمجات الطفولة، التجارب المؤلمة، ونماذج التعلّم التي تربينا عليها. لذلك، فإن ممارسة الديتوكس الذهني تشمل إعادة بناء هذا الصوت عبر التأمل، الكتابة، والعلاج المعرفي».
ضجيج العقل.. حين تكون الأفكار غير منطوقة
تشير الدراسات إلى أن الأفكار غير المُعالجة، تلك التي نكبتها، نؤجلها، أو نتجاهلها، لا تختفي، بل تتخزن في اللاوعي. يقول د. آرام: «حين نتعرض لموقف يذكّرنا بتجربة مؤلمة، يتفاعل الجسد وكأنه يعيش الحدث من جديد، دون أن نعي السبب. هذا ما يفسّر الانهيارات التي تحدث بلا إنذار واضح». تلك «الملفات العالقة» تستهلك من طاقتنا النفسية، وتؤثر في مزاجنا، وسلوكنا، وعلاقاتنا، دون أن ننتبه.
أدوات فعّالة للديتوكس الذهني
يقول د. آرام إنه لا توجد وصفة موحدة.. «الديتوكس مسار فردي، يبدأ من معرفة ما يربكك، وينتهي بما يعيد إليك سلامك الداخلي».
ويشير إلى عدد من الأنشطة التي ثبتت فعاليتها في تخفيف ضجيج الدماغ:
• الكتابة الصامتة: تفريغ يومي للأفكار دون تصحيح أو مراجعة.
• المشي دون هدف محدد: يُحرّر الجسد والعقل معاً.
• الرسم، الموسيقى، التأمل: أدوات تواصل مع اللاوعي.
• الصيام الرقمي: تقليص استخدام الهاتف، إلغاء الإشعارات، وإعادة ترتيب مصادر المعلومة.
• الابتعاد المؤقت: سواء بالسفر أو إعادة ترتيب البيئة اليومية.
تغيير البيئة
إلى أي درجة يمكن لتغيير البيئة كالسفر أو الانعزال المؤقت، أن يسهم في التوقف الذهني؟ وهل لذلك أثر مستدام، يشير د. آرام إلى أن تغيير البيئة من الإجراءات الأساسية، فالسفر بشكل دوري ومنتظم يساعد في التخلص من ضغوطات العمل والحياة اليومية، وكذلك يساعد بشكل كبير في الابتعاد عن المؤثرات السلبية وهي عملية أشبه بإعادة الشحن وإعادة التشغيل، أثرها يكون مستداماً إذا التزم بها الشخص بشكل مستمر، وسافر أو ابتعد لفترة زمنية مؤقتة عن بيئة العمل أو البيئة التي تؤثر فيه سلباً حتى لو كان ذلك مرة واحدة في السنة.
هل التفكير المفرط شكل من أشكال الإدمان؟
يؤكد د. آرام أن التفكير المفرط هو أشبه بعملية اجترار ذهني تعود عليه الإنسان في التعامل مع المشاعر المزعجة والمحبطة، كالشعور بالعجز والذي يؤدي إلى الخوف والحزن، وفي النهاية الشعور بالذنب لعدم تحقيق أي تقدم وتراكم المشاكل وتفاقمها بسب التأجيل وعدم اتخاذ قرارات في الوقت المناسب لاعتبارات متعلقة بالشخصية والظروف والبيئة المحيطة. ويقول: «الدماغ يُعيد تشغيل نفس السيناريوهات بحثاً عن سيطرة زائفة على المستقبل، لكنه لا يجد إلا مزيداً من القلق».
-
«الديتوكس الذهني».. عندما يحتاج العقل إلى مساحة تنفس
بين «الاستراحة الذهنية» و«الانسحاب النفسي»
«لا يمكن لأي استراحة أن تُعتبر علاجاً إذا كانت غطاءً للهروب. حين تؤجل المواجهة بدلاً من تأجيل القلق، فأنت لا ترتاح.. أنت تختبئ» هكذا يُلخّص د. آرام الفرق بين التوقف الصحي والإنكار. مشيراً إلى أن العلامات التحذيرية لذلك تشمل: تكرار التصرفات بشكل نمطي، والمراوغة في اتخاذ القرارات أو تأجيلها بشكل مستمر، وتجنّب الحوار مع الذات، والبحث عن مشتتات بدل الحلول.
كيف نصنع فراغاً صحياً في عقولنا؟
وحول ما تفعله بنا الشاشات عندما لا نمنح عقولنا مساحة فارغة يقول د. آرام: «هذا الكم الكبير من تدفق المعلومات المتضاربة وغير الدقيقة وفي نفس الوقت تكون مثيرة ومدهشة، وكذلك سهولة الحصول عليها جعلها في متناول الجميع وبسرعة فائقة، له أثر كبير على طريقة التفكير، وعلى التصرفات وعلى زيادة التلوث الذهني رغم محاسنه الكثيرة إلا أنه سلاح ذو حدين فهو مفيد لمن يجيد استخدامه ومضر لمن لا يجيد ذلك». يقترح د. آرام تقنية التدرّج:
• تحديد وقت محدد للشاشات
• حذف الإشعارات غير الضرورية
• إزالة التطبيقات المشتتة
• تخصيص ساعة واحدة يومياً لفراغ مقصود، دون هاتف، دون تفاعل، فقط مع الذات.
ويختتم د. آرام أن الديتوكس الذهني ليس رفاهية، بل إعادة برمجة للعقل كي يتنفس، كي يُفكر بوضوح، وكي يشعر دون خوف، «في عالم لا يتوقف عن الصراخ، امنح عقلك لحظة صمت.. فقد تكون أكثر ما يحتاجه لتبدأ من جديد».