#صحة
كارمن العسيلي اليوم
في ظل ازدياد الوعي المجتمعي بقضايا الصحة النفسية والذهنية؛ تبرز تساؤلات عدة حول طبيعة «التدهور الإدراكي»، ومرض الخَرَف، وسبل الوقاية والعلاج، وأهمية التدخل المبكر. في هذا السياق، التقينا الدكتور ناصر الزبيدي، استشاري الطب النفسي والأعصاب بمركز «سكينة»، ومدينة الشيخ شخبوط الطبية، الذي أضاء جوانب عدة حول هذه الحالة الطبية المعقدة، التي باتت تمسُّ حياة الكثيرين حول العالم.
في حديثه العميق والبسيط في آنٍ، يُظهر الدكتور ناصر الزبيدي أهمية دمج الرعاية الطبية والنفسية، مؤكداً أن «الدماغ لا يُعالج فقط بالأدوية، بل بالمحبة والتفهّم والدعم»، ويوضح أن الاضطرابات الإدراكية تشير إلى تدهور في مجموعة من الوظائف الذهنية، تشمل: التركيز، والذاكرة، والقدرة على التخطيط والتنظيم، والطلاقة اللفظية، والسلوك، بالإضافة إلى الإدراك البصري، والمكاني. مشيراً إلى أنه حينما تتأثر هذه الوظائف بشكل كبير وملاحظ، وتبدأ تأثيرها في قدرة الشخص على أداء مهامه اليومية، نكون بصدد حالة تستدعي تدخلاً طبياً.
-
«الخَرَف» تحديات نفسية واجتماعية وعائلية
يتابع الدكتور الزبيدي، شارحاً أنه من المهم التمييز بين التغيرات الطبيعية في الذاكرة، التي تحدث مع التقدم في السن، وتكون طفيفة، ولا تؤثر في نمط الحياة، وبين «الخرف»، الذي يمثل تدهوراً واضحاً ومستمراً في الوظائف الذهنية، ويؤثر - بشكل ملموس - في القدرة على ممارسة الحياة اليومية. ويعطي الزبيدي مثالاً بأن النسيان الطبيعي قد يظهر مع الأسماء أو المواعيد، التي يتذكرها الشخص لاحقاً. أما في «الخرف»، فهناك فقدان مستمر للقدرة على التذكر، والتفكير السليم.
ولدى سؤاله عن الأسباب الأكثر شيوعاً وراء الإصابة بـ«الخرف»!.. يجيب استشاري الطب النفسي والأعصاب: إن «الخرف» ليس مرضاً في حد ذاته، بل هو مجموعة من الأعراض الناتجة عن أمراض عدة. ومن أبرز هذه المسببات مرض «الزهايمر»، وهو أكثر أنواع «الخرف» شيوعاً. وهناك، أيضاً، «الخرف» الناتج عن أجسام «ليوي»، و«الخرف الوعائي» الناتج عن مشاكل في الدورة الدموية، بالإضافة إلى «الخرف الجبهي الصدغي»، الذي ينتج عن تغيرات في البروتينات داخل الدماغ، تؤدي إلى تدهور الخلايا العصبية. ويبين أن العوامل الوراثية تلعب دوراً في الإصابة بمرض «الخرف»، لاسيما في حال وجود تاريخ عائلي للإصابة. لكنه يوضح أن ذلك ليس العامل الوحيد؛ فالبيئة، ونمط الحياة، والأمراض المزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري، كلها تلعب دوراً في قوة أو ضعف خطر الإصابة.
أعراض «المرض»
وعن العلامات المبكرة، التي تستدعي الانتباه لدى المعرضين للإصابة بـ«الخرف»، يذكر الدكتور الزبيدي بعضها، ومنها: صعوبة اتخاذ القرارات، وتكرار الأسئلة، وفقدان القدرة على تنظيم الأمور، وتغيّرات المزاج والسلوك، وتراجع القدرة على التركيز، وصعوبات إيجاد الكلمات المناسبة. ويعيد استشاري الطب النفسي والأعصاب التأكيد على أن النسيان الطبيعي، غالباً، يكون متقطعاً، ويظل الشخص قادراً على أداء مهامه اليومية، ولا يَعتبر أن من يعانيه مصاب بـ«الخرف». في حين أن أعراض «الخرف» تكون مستمرة، وتزداد سوءاً مع الوقت، وتتداخل مع الحياة اليومية للفرد، وتؤثر في قدرته على أداء أبسط المهام.
فحوص التشخيص
يقول الدكتور الزبيدي: إن تشخيص «الخرف» يعتمد على تقييم شامل، يبدأ بالتاريخ الطبي للمريض، والفحص السريري والعصبي، بالإضافة إلى اختبارات معرفية؛ لتقييم الذاكرة والتركيز. كما تستخدم اختبارات الدم؛ للكشف عن أسباب عضوية محتملة، إلى جانب تصوير الدماغ باستخدام الرنين المغناطيسي، أو الأشعة المقطعية؛ للتوصل إلى التشخيص الأدق. وعند الحديث عن إمكانية الكشف المبكر عن المرض، يؤكد الدكتور ناصر أن تشخيص «الخرف» في المراحل الأولى ممكن، وهو أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يسمح بوضع خطة علاجية شاملة، تهدف إلى إبطاء وتيرة التدهور، وتحسين جودة حياة المريض وأسرته، كما يتيح الوقت الكافي لترتيب الجوانب المناسبة، المتعلقة بالرعاية المستقبلية، صحياً أو اجتماعياً.
التحليل الجيني
وفي ما يخص الجانب الوراثي، يشير استشاري الطب النفسي والأعصاب إلى أن إجراء التحليل الجيني، قد يكون خياراً مطروحاً في بعض الحالات، لاسيما في حال وجود تاريخ عائلي قوي للإصابة بـ«الخرف». لكنه ينبه إلى ضرورة أن يتم هذا الإجراء تحت إشراف طبي مختص، نظراً لما قد يترتب عليه من آثار نفسية، واجتماعية.
العلاج المتوفر
أما على صعيد العلاج، فيوضح الدكتور ناصر الزبيدي أن المقاربة العلاجية تشمل مزيجاً من الأدوية والعلاجات غير الدوائية. فبينما تساعد الأدوية المتوفرة في تحسين بعض الأعراض، وإبطاء التدهور، تعد العلاجات غير الدوائية، كالعلاج السلوكي، والموسيقى والأنشطة اليومية، والدعم النفسي والاجتماعي، ركيزة أساسية في مسار الرعاية.
علاجات واعدة
ولا يغيب عن المشهد التطور البحثي المتواصل، إذ يُبشر الدكتور ناصر بأبحاث واعدة، تركز على إزالة البروتينات المتراكمة في الدماغ، وتحسين البيئة الخلوية العصبية. ورغم أن بعض هذه العلاجات أظهرت نتائج مشجعة، إلا أنها لا تزال في مراحلها التجريبية، وتحتاج إلى مزيد من الدراسات السريرية؛ لتأكيد فاعليتها، وسلامتها.
وقاية.. ورعاية
وبالانتقال إلى الجانب الوقائي، يشدد استشاري الطب النفسي والأعصاب على أهمية اتباع نمط حياة صحي؛ كوسيلة فعالة للوقاية، وتأخير التدهور الإدراكي. ويشمل ذلك: ممارسة الرياضة بانتظام، والالتزام بنظام غذائي متوازن كحمية البحر الأبيض المتوسط، والحصول على نوم كافٍ، وضبط الأمراض المزمنة كارتفاع الضغط، والسكري. وعن دور العائلة في رعاية مريض «الخرف»، يؤكد الزبيدي أن الدعم الأسري يلعب دوراً محورياً في رعاية المرضى، من خلال توفير بيئة آمنة ومستقرة، أو عبر تقديم الدعم العاطفي، أو حتى باللجوء إلى خدمات مراكز الدعم المجتمعي، التي تقدم إرشاداً مهنياً، ورعاية متخصصة لأفراد الأسرة.
-
«الخَرَف» تحديات نفسية واجتماعية وعائلية
ويعقب الدكتور الزبيدي بأن الطريق ليس سهلاً، إذ يواجه المريض تحديات نفسية واجتماعية عدة، أبرزها: الشعور بالعزلة، وفقدان الاستقلالية، والقلق المستمر. بينما تتكبد الأسرة، أحياناً، أعباء مالية ومعنوية؛ نتيجة الحاجة المستمرة إلى الرعاية، إضافة إلى ما قد يواجهه البعض من وصمة اجتماعية؛ ناتجة عن قلة وعي المجتمع بطبيعة المرض. ويوضح أنه، في ضوء هذه التحديات، تُعد مراكز الرعاية المتخصصة خياراً مناسباً في مراحل معينة، إذ توفّر بيئة مدروسة، وكادراً مدرّباً على التعامل مع احتياجات المرضى، إلى جانب برامج وأنشطة تفاعلية، تحفّز ما تبقى من القدرات الإدراكية.
وفي ختام اللقاء.. يؤكد الدكتور ناصر الزبيدي، استشاري الطب النفسي والأعصاب، أن الوقاية التامة قد لا تكون ممكنة. لكن الوعي، والفحص المبكر، والدعم الأسري والمجتمعي، جميعها تشكل مفاتيح حقيقية لحياة أكثر جودة، حتى في ظل الإصابة بـ«الخرف».
5 أسئلة.. وأجوبة
1 . ما الفرق بين «الخرف»، و«الزهايمر»؟
«الخرف» مصطلح شامل، يشير إلى تدهور الوظائف المعرفية، مثل: الذاكرة، والانتباه، واللغة، والقدرة على اتخاذ القرارات؛ نتيجة خلل في الدماغ. أما «الزهايمر»، فهو الأكثر شيوعًا من أنواع «الخرف» الأخرى، وذلك لأنه يمثل حوالي 60-70% من الحالات المصابة بالمرض.
2 . هل يمكن أن يصيب «الخرف» الأشخاص في سن مبكرة؟
نعم، فرغم أنه أكثر شيوعًا لدى من تجاوزوا الـ65 عامًا، إلا أن هناك حالات تُعرف بـ«الخرف المبكر» (Early-Onset Dementia)، يمكن أن تظهر في الأربعينيات، أو الخمسينيات، وغالبًا تكون لها أسباب وراثية، أو ترتبط بأمراض نادرة.
3 . ما العلامات الأولى، التي يجب الانتباه إليها؟
من هذه العلامات: النسيان المتكرر للمواعيد والمعلومات اليومية، وتكرار الأسئلة نفسها، وصعوبة التحدث واتخاذ القرارات، وتغيرات السلوك أو الشخصية، والارتباك في الأماكن المعروفة.
4 . هل يتطور «الخرف» بسرعة؟
وتيرة تطور «الخرف» تختلف من حالة إلى أخرى؛ فلدى بعض المرضى قد يتطور بشكل بطيء على مدى سنوات، بينما في حالات أخرى، خاصةً في أنواع مثل «الخرف الوعائي»، قد يكون التدهور سريعًا؛ نتيجة سكتة دماغية، أو سلسلة من الجلطات الصغيرة.
5 . كيف يمكن للأسرة، والمجتمع، تقديم الدعم؟
من خلال التوعية بأن «الخرف» حالة طبية لا تقل أهمية عن أي مرض عضوي آخر، وتشجيع الحوار المفتوح حول المرض، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي إلى المريض وأسرته، بالإضافة إلى دمج المصابين بـ«الخرف» في الأنشطة المجتمعية بطرق تتناسب مع قدراتهم.