إسكتلندا كما لم تعرفها من قبل: رحلة بين المرتفعات والموسيقى والأساطير

17 hours ago 5

بينما كانت عجلات السيارة تعبر جسر كيسويك نحو التلال المتموجة في ضواحي إينفيرنيس، فتحت إسكتلندا قلبها لنا. على جانبي الطريق، امتدت حقول الشعير الخضراء، في انتظار شهورٍ أخرى قبل أن يحين موعد الحصاد.

علمتُ لاحقًا أن هذه الحبوب ستشق طريقها إلى مصنع قريب، لتتحول، بعد سلسلة من العمليات، إلى قطرات من الويسكي الذي تشتهر به البلاد التي تضم أكثر من 150 مصنعًا للتقطير.

بين تلك المساحات الخضراء، كانت بقع صفراء زاهية من بذور اللفت -أو الكانولا- تبعث إشراقًا في المشهد، تذكيرًا بأن هذه الأرض لا تقدم فقط شرابها الشهير، بل تسهم أيضًا بزيت الطهي الذي يعرفه كل مطبخ. وعلى مسافة قريبة، كانت قطعان الأغنام ترعى بهدوء، حتى خُيّل إليّ أنها تفوق البشر عددًا في هذه الربوع.

للوهلة الأولى، بدا المشهد كما لو أنه تجمد في الزمن، وكأن شيئًا لم يتغير منذ ألف عام. لكن مرشدتي، كاث فيندلاي، كانت هناك لتُعيد ترتيب قطع التاريخ أمامي.

بابتسامة دافئة وصوت مليء بالحكايات، همست لي أن بذور اللفت لم تعرف هذه الأرض إلا منذ السبعينيات، وأن هذه الأراضي كانت تعجّ بالبشر قبل أن تفيض بالأغنام.

أخبرتني كاث عن “تطهير المرتفعات”، الفصل المضطرب من تاريخ إسكتلندا، عندما رأى مُلّاك الأراضي في الأغنام قيمة أكبر من المستأجرين الذين عاشوا هنا لأجيال. لذا، لم يكن غريبًا أن تتحول المرتفعات إلى تلال من الأغنام، شاهدة صامتة على تاريخ من الإقصاء والتغيير.

كان لدرس التاريخ هذا صدى في داخلي، لأنه كان من الواضح طوال أسبوعي في اسكتلندا أن الماضي حاضر بقوة. لكن إينفيرنيس وضواحيها ليست عالقة في الماضي، بل هي جزء من هذا البلد الجميل.

إينفيرنيس: قلب المرتفعات النابض بالحياة

حين وصلنا إلى إينفيرنيس، شعرنا كأننا نعبر بوابة خفية إلى عالم آخر، عالم من التلال الوعرة التي تعصف بها الرياح شمال غرب إسكتلندا، حيث تحتضن المدينة الصغيرة واحدة من أغنى الأساطير الأوروبية: أسطورة وحش بحيرة لوخ نيس. لكنها، كما اكتشفت، ليست مجرد محطة لصيادي الخيال، بل مدينة تعيد اختراع نفسها بهدوء وثقة.

رغم أنها من أسرع المدن نموًا في المملكة المتحدة، ما زال بوسعك عبور وسطها سيرًا على الأقدام في غضون 15 دقيقة فقط. عند أحد أطراف المدينة، تلوح قلعة إينفيرنيس ذات الحجر الرملي الأحمر، وقد كانت مغطاة بالسقالات حين زرتها في الربيع، بانتظار انتهاء تجديدها لتصبح معلمًا تفاعليًا يروي قصص المرتفعات الغنية بالدراما والتاريخ.

وسط المدينة يحتضن السوق الفيكتوري الذي استعاد شبابه مؤخرًا. هذا المكان، الذي كان على وشك الإغلاق حتى قبل جائحة كوفيد-19، أصبح اليوم خلية نحل نابضة بالحياة.

التجديد هنا لم يكن مجرد ترميم حجارة وسقف، بل إحياء لروح المكان. بين متاجر الحرفيين، والمقاهي، ومحلات المجوهرات، والحلاقين، يبقى الطباخ القديم، الذي نصحتني مرشدتي كاث فيندلاي بتذوق فطائره الشهيرة قائلة إنها "أفضل حتى من المصنوعة منزليًا".

أينما توجهت، شعرت أن المدينة تُعيد تقديم نفسها للعالم. سوق المأكولات البحرية القديم تحول إلى قاعة طعام تعج بالضحكات. هناك مخبز Bad Girl’s الشهير، ومطعم The Redshank الذي يجمع بين الابتكار والأسعار المعقولة، وOllie’s Pops بلحومه المسحوبة الشهية، وSalt N Fire للنباتيين. كل زاوية كانت تقدم لي إسكتلندا جديدة، إسكتلندا تعرف كيف تحافظ على تراثها وتعيد خلقه في آنٍ معًا.

ومع الموسيقى الحية التي تدوي يوميًا في السوق، لم أستغرب حين علمت أن عدد زوار السوق في الأسابيع المزدحمة يصل إلى 75,000 شخص، رقم يكاد يعادل عدد سكان المدينة نفسها! كما قالت مرشدتي بابتسامة عريضة: "كان السوق ميتًا، والآن صار قلب المدينة النابض".

وأثناء تجوالي في شارع الكنيسة الرئيسي، توقفت عند The Walrus and Corkscrew، حانة النبيذ الوحيدة في المدينة، التي فتحت أبوابها مؤخرًا وأصبحت ملاذًا لعشاق اللحظات الحميمة.

وعلى مقربة، في Black Isle Bar، جمعت البيتزا المطهية على الحطب بين دفء المكان ونكهة البيرة العضوية، التي يُخمّرها أصحابها في مزرعتهم خارج المدينة.

هناك، جلست للحظة أتأمل، شعرت وكأن إينفيرنيس تهمس لكل عابر: "أنا أكثر من مجرد أسطورة، أنا مدينة تعرف كيف تحتفي بالحياة".

طعام وأساطير في بولي

على بُعد مسافة قصيرة من إينفيرنيس، وجدنا أنفسنا في قرية بولي الهادئة، حيث يقع بيت الضيافة المميز Downright Gabbler، مكان صغير بأربعة أجنحة فقط، لكنه يحمل في داخله عالماً من الحكايات.

هنا، لا يأتي الناس فقط للنوم أو الطعام، بل ليغوصوا في أعماق التاريخ والأساطير الإسكتلندية، برفقة راوي قصص محترف.

كان غاري كوتس وزوجته جين كومينغ وراء هذا المشروع العائلي الساحر، بينما تتولى ابنتهما كريستي إعداد الأطباق بإبداع عصري يمنح الوصفات التقليدية روحاً جديدة. المكان ليس مطعماً تقليدياً، بل مساحة تُقام فيها فعاليات أسبوعية خاصة، تجمع بين الطهي المبتكر وسحر الحكاية.

في واحدة من هذه الأمسيات "مأدبة المرتفعات" خضنا رحلة تذوق من ستة أطباق تروي قصة سكان المنطقة من عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم. بدأنا بكارباتشيو لحم الغزال مع التوت الأسود المخلل، طبق استُلهم من زمن الصيادين الأوائل.

ومع ذلك، ضحك كوتس قائلاً: "في الحقيقة، كانوا يأكلون المأكولات البحرية والخضروات أكثر من الغزلان. من الصعب جدًا اصطياد الغزلان، إنهم يهربون".

وبينما تتوالى الأطباق، كانت القصص تتدفق بلا توقف، من مغامرات خلطات ويسكي جوني ووكر وصولاً إلى ذكريات غاري وجين الطريفة في لاس فيغاس. وعلى الطاولة، وُضعت مجموعة بطاقات تحمل أسماء شخصيات إسكتلندية شهيرة، تُسحب عشوائياً لتتحول كل بطاقة إلى قصة ممتعة.

عندما ظهر اسم ألكسندر غراهام بيل، علّق كوتس بابتسامة ساخرة: "على الأرجح هو صاحب الرقم القياسي في عدد دعاوى براءات الاختراع. ومن المذهل عدد الأمريكيين الذين يجادلونني هنا بأنه ليس إسكتلنديًا".

هل تريد زيارة إسكتلندا؟

إذا كنت من محبي الاستكشافات، فعليك بزيارة هذا البلد الرائع. بالنسبة لخيارات الإقامة، لديك ما يلائم كل ذوق. يمكنك الاستمتاع بفخامة فندق Ness Walk، فندق خمس نجوم حديث يبعد عشرين دقيقة سيراً على الأقدام عن قلب المدينة. وإن كنت تفضّل أجواء أكثر دفئًا وحميمية، فجرب فندق Heathmount، المصنف ثلاث نجوم، على بُعد عشر دقائق سيراً من شارع الكنيسة.

رغم صغر حجمها، تفاجئك إينفيرنيس بمشهد موسيقي نابض. كل ليلة تقريبًا، يعزف الموسيقيون في Hootananny وThe Highlander، وفي معظم الليالي تجد الأجواء ذاتها في MacGregor’s. لكن قبل أن تبدأ جولتك الموسيقية، لا تفوّت التوقف في The Malt Room، حيث تنتظرك قائمة مذهلة من 350 نوعاً من الويسكي، رحلة تذوق بحد ذاتها، تختصر نكهة إسكتلندا في كل رشفة.

يمكنك العثور على مزيد من المعلومات على موقع visitcotland.com.

اذهب للمصدر